السبت، 14 أبريل 2018

العدمية في رسم ما بعد الحداثة 1


                                                                                                                  


العدمية في رسم ما بعد الحداثة 1


من كتاب العدمية في رسم ما بعد الحداثة لمنذر الدليمي 





العدمية وما بعد الحداثة:
نشأت الحداثة ضمن حقل النقد الأدبي، ثم استثمرت ووظفت في حقول معرفية أخرى كالاجتماع، السياسة، الفن، التحليل النفسي، التقنية، الألسنية، والاقتصاد. مصطلح الحداثة اختار العمارة منطلقاً له، وإن وُرد لفظاً في كتاب المؤرخ (آرنولد توينب)، وهذا ما يذهب إليه (جان فرانسوا ليوتار) الذي يعد مجال العمارة هو المجال الذي طُرح فيه سؤال ما بعد الحداثة بأشد الطرق حدة. ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية، ومن هذه الزاوية نجد أن حالة من التنوع واضطراب تحدد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية.  
تجدر الإشارة إلى أن هناك اتجاهين فيما يخص ما بعد الحداثة، الاتجاه الأول يؤيد القول بما بعد الحداثة وحلول عصرها، ويمثله ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وفرانسوا ليوتار. هؤلاء أعلنوا نهاية الحداثة معلنين (فريدريك نيتشه) أباً روحياً لهم. أما الاتجاه الثاني فهو يرفض هذه التسمية (ما بعد الحداثة) ويعدّها بدعة، ويمثله (هبرماس، وفريدريك جامسون)، إذا يؤكد هذا الاتجاه أن التنظير لما بعد الحداثة ردة فعل بائسة ضد التنوير، ويدعى أن الحداثة غير مكتملة، ويقترح نوعاً من الحداثة التواصلية كمخرج من الحداثة. غالبية الباحثين لا ينظرون إلى ما بعد الحداثة إلا على أنها ظاهرة نقيضة وتناقضية وناقضة لذاتها، أي أنها تستحضر العدم في جوهر حضورها، بمعنى آخر لم ينشأ اتجاه ما بعد الحداثة إلا كتدمير للبناءات الرمزية التي أنشأتها الحداثة.
الجذور الفلسفية لما بعد الحداثة ترتبط مباشرةً وتدين بالكثير للفيلسوف نيتشه، الذي صح إن العدمية أضحت تدق على الأبواب، لنا أن نفهم تأثير هذه الأفكار العدمية في فن الحداثة وما بعد الحداثة. ميز فريدريك نيتشه بين أربعة أطوار في العدمية، وهي كالآتي:
1.     العدمية السالبة أو الناقصة: المرتبط بنزعة (شوبنهاور) التشاؤمية والمعتمدة على فكرة الألم القائلة بأفضلية العدم على الوجود، والداعية إلى تحطيم إرادة الحياة وتعترف بانهيار القيم القديمة دون أن تجرؤ على الشك في أساسها المثالي.
2.     العدمية الارتكاسية: وهي بمثابة رد فعل ضد العالم المفارق، وإذلال للقيم المقدسة والمثل العليا، إذ ينفي العدمي وجود متعالي والخير المطلق والحقيقة المجردة، كل هذا يأتي باسم قيم إنسانية مُسرفة في انسانيتها.
3.     العدمية الخنوعة: وهي المتبرمة من فقدان الحياة لأساسها والقيم لمدلولاتها المسلمة أمرها للقدر، الذي يجعل كل شيء سائراً إلى زوال ولا تعمل شيئاً للمقاومة.
4.     العدمية النشيطة أو الفاعلة: وتعني أن فقدان القيم لمدلولاتها لا يوجب أن يمنعنا من أن نواصل السير في جنازتها دون أسف، حينها تصل العدمية إلى هذا التحول والتصعيد يمكن أن تُشكل فضاءً جديداً للتفكير، وإمكاناً جديداً للحياة والوجود.
كان للحرب العالمية الثانية أثر واضح على جميع الأصعدة والجو الذهني والتعبير، حيث تأثر عدد من الفنانين تأثراً واضحاً بالأحداث الأمر الذي دفعهم للتعبير عن الأثر البليغ الذي وقع عليهم، إما بإثارة الموضوعات المرتبطة بأحداث الساعة، وإما بإتباعهم طريقة خشنة في معالجة مواضيع ليس فيها شيء من المأساوية.
الجديد في العمل الفني التصويري هو طريقة التعامل مع اللون كعنصر مستقل، وفي طريقة المعالجة واستخدام هذا اللون؛ فبطُل التصوير بمعناه التقليدي ولم يعد يُمارس بحسب ما تقتضيه المفاهيم الفنية السابقة، كما أُبطلت الوسائل التقليدية المرتبطة به كالدراسات الأولية التحضيرية وقوانين التأليف لتأخذ مكانها طرق جديدة في التعامل مع المادة التي أُتيح لها مجال الانفلات والتحرر النسبي من قيديّ المراقبة وإتباع قوانين خاصة.         
عندما شرعت العقول في رفض عالماً لم تعد العلاقة فيه بين الوعي والطبيعة تقدم أسس تقليدية، أضحت الحقيقة تؤلف عقبة أمام الفرد؛ العقبة الوحيدة التي امتلكت الشرعية وسطوة التأثير هي الحقيقة الباطنية والمخيلة والحواس. ومنذ ذلك الوقت لم تعد مهمة الرسام إعطاء المشاهد صورة وهمية مقنعة، بل الاستعاضة عن هذه الصورة بحقيقة أكثر صدقاً وحداثة، حقيقة تنبثق من فعل الروح المستقلة، الحقيقة ذاتها.
نتج عن هذه المحاولات الجديدة ذات الطابع الارتجالي، أن فقدت التقاليد الاكاديمية ودخل الفنان في عملية اختبارية تقود للتعرف على طبيعة المواد ودراسة خصائصها والإفادة منها ومما تقدمه له المصادفة. ينبغي الإشارة إلى أن فقدان التقاليد الاكاديمية لم يكن بطريقة عفوية أو غير مقصودة، بل ان الفنان الحداث كان يبدع عملاً فنياً يقوض فيه دعائم التقاليد ويخلخلها ويجعلها تبدو ملتبسة غريبة، يمارس عدميته من خلال التأكيد أن لا قيمة للقيم، ولا ثبات لتلك التقاليد التي أطاحت بها الحرب العالمية الثانية، ولتمارس الذات العدمية عملية إبادة وتفكيك لقيم وعقائد وتقاليد قائمة على التلفيقات السياسية والإيديولوجية؛ حتى تحول الفن إلى الداخل، إلى الجسد، إلى الذات.
كان على الفن أن يتحول بأشكاله وبموضوعاته وخطاباته لإلغاء قساوة التكنولوجيا وإنجازات العلم، عندها يصبح الجمال متغلغلاً في المستوى الاجتماعي، ليس الهدف من الفن خلق سوق موازية لسوق السلع الاستهلاكية، وإلا لأصبح بحد ذاته سلعة ولا نتفت عنه خاصية الرسالة. رافق ذلك كله انتقال مؤشر البوصلة ليعلن جغرافية جديدة للحداثة، هي مدينة نيويورك بدلاً من باريس الممزقة من دمار الحروب. وهو انتقال لم يكن محض مصادفة وإنما جاء نتيجة لولوج أمريكا العالم المعاصر كقوة اقتصادية وعسكرية، من خلال ثقافة كوزموبوليتانية؛ وكل ذلك مثّل ملاذاً آمناً لقائمة طويلة من الفنانين والأدباء أمثال أندريه بريتون، بيت موندريان، إيف تانغي، جين أرب، ماكس آرنست، وسلفادور دالي. كل ذلك كان قد أشر حقيقة مفادها إن الثقافة والفن والرسم بشكل خاصص كان على أهبة الانطلاق قدماً من جديد، من خلال أشكال وممارسات واتجاهات وأساليب فنية مختلفة، والتي من أهمها وأكثرها تأثيراً:

Ø    التعبيرية التجريدية Abstract expressionism عدمية الاستغراق في راهنية اللحظة واللاعقلانية:
يبدو أن تصاعد الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتمزق الذي سببته الحرب العالمية الثانية، قد عمق التأثير على الفنانين الشباب في أمريكا واروبا لأن التقدم التكنولوجي لم يضمن التقدم السياسي والاجتماعي، فيما كانت أزمة الثقة بالعقلانية في المجتمعات الحديثة قد أخذت مأخذها، وبمقدار ما كان الفن متعلقاً ومهتماً بالمقدمات المنطقية والمثالية للتكعيبية والحركات التي انبثقت منها في سنوات ما بين الحربين فأنها قد فقدت جاذبيتها ورونقها فيما بعد الحرب العالمية الثانية. مهد كل ذلك إلى ولادة محاولات جديدة ذات طابع ارتجالي فُقدت فيها التقاليد الاكاديمية وأدخل الفنان ذاته في عملية اختبارية وأماكن مجهولة جديدة، شكلت بمجموعات ما يشبه الثورة الفنية؛ لكونها غيرت طبيعة الصورة العامة للفن كما غيرت مفهومنا له وغيرت العلاقة ما بين الفنان والآخر/ المتلقي/ المجتمع/ الممارسة الثقافية، وأبرز ما يميزها هو (اللاموضوعية) وذلك لطابعها التجريدي العام وتخطيها الأشياء المرئية (العالم الموضوعي)، فيما كان (اللاشكلي) هو التعبير الذي يجمعها، لكون هذا الفن لا يرتبط في مفهومه العام بشكل أو أشاره، بقدر ما يرتبط باللون وتقنية وجودة المعبّر عن الانفعالات مباشرة.
الفن اللاشكلي هو الرفض لكل مشروع لكل تداول لكل فكرة مسبقة، والاستسلام للمزايا غير المنظورة للحركة والمادة، ولعل ما يرفضه الفنان اللاشكلي هو مفهوم اللوحة كانعكاس أو تكرار للواقع أو النموذج، كما يرفض أي شكل من أشكال التمثيل أو النقل. هذا الرفض الذي يصبح هيكل اللوحة وحسدها، هذا الرفض إذا اضيف إلى الإحاطة بكل تقاليد وتراث إنتاج اللوحة، فإنه سيشكل منهجاً وموقفاً عدمياً، وهو بذلك يتفق في كون ما بعد الحداثة في الفن، نشاط يسعى إلى تدمير القواعد وتجاوزها وخرق الحدود المتعارف عليها في الفنون والنظريات الجمالية والثقافية والفنية السابقة؛ وهو نشاط يتولد من أزمة انعدام اليقين ويسعى عامداً إلى خلخلة فرضيات الفن وقواعده، وهي مجموعة شروط تنطيف على التعبيرية التجريدية التي جعلت نيويورك عاصمة الفنون في العالم خلال فترة الاربعينيات.
يعد بولوك فناناً شديد الذاتية، فالحقيقة الداخلية بالنسبة له هي الحقيقة الوحيدة، ويصف هارولد روزينبرغ المنظر الرئيس للتعبيرية التجريدية هذا الأسلوب بأنه (ظاهرة انقلاب في المعتقد) بل انه ذهب الى ابعد من هذا فسماها (حركة دينية جوهرياً).

Ø    الفن الشعبي Popular art  عدمية تصعيد الهوامش إلى المركز:
عندما سُئل (ليوتارد) عن نوعية الفن الذي يمكن أن نطلق عليه وصف ما بعد الحداثة، أجاب قائلاً: "علينا أن نرتاب في كل الإبداع الفني الذي وصل إلينا من القديم وحتى البارحة، لقد تحدى (سيزان) التأثيريين، ثم جاء (بيكاسو) و (براك) فاستهدفا (سيزان) بالهجوم، ثم كفر (دوشامب) عام 1912م بفرضية الرسم نفسها حتى وإن كان تكعيبياً، وجاء بعده (بيورين) ليتشكك بدوره في فرضية أخرى، رأي إن دوشامب حافظ عليها في أعماله، ولم يتعرض لها بالنقد، وهي الفرضية التي تتعلق بموقع التصوير ومكانه في العمل الفني". وهنا ندرك ان فن ما بعد الحداثة يقاوم التقنين والتحديد، فهو يحدث كتعبير عن أزمة حادة، ويتولد من كسر القواعد أو قلبها رأساً على عقب، وهو لهذا (فن ما بعد الحداثة) يشير إلى تشككه في اللغات والأساليب والصور التي يتبدّى من خلالها للأعين، هنا يمكن أن نفهم لماذا قلب فنانو البوب اللعبة وأعادوا تركيب اللعبة وفق قوانينهم الخاصة، والتي هي بالأساس تحتكم إلى العدمية والتدمير لكل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها.
ويمكن تصنيف الفن الشعبي إلى شقين، أحدهما انجليزي والآخر أمريكي، إذ انبثق الأول من الثقافة الشعبية في البيئة الحضرية المتغيرة باستمرار وبالتطور الصناعي للإنتاج الاستهلاكي الشعبي، مقابل فن الطبقات الراقية، إذ أن البيئة الصناعية تعمل على خلق تجربة واسعة يمكن أن تندرج فيها المنتجات الصناعية بحيث تكتسب صبغة جمالية، بمعنى أن العادات التي درجت عليها العين بوصفها واسطة للإدراك قد تغيرت تغيراً تدريجياً بطيئاً، نتيجة تعودها على الأشكال المميزة للمنتجات الصناعية والموضوعات القائمة في الحياة العصرية. بينما مثل الشق الأمريكي إعادة تقييم بصري للأشياء والأحداث التي يعيشها الإنسان الأمريكي، وقد بدأ لجزء هام من حياته دون طرح أي مشكلة تتعلق بها أو تعبر عنها. ومن هنا هذا التباين في المفهوم الفني (البوب آرت) في أوربا وأمريكا؛ إذ أن تباين الظروف الاجتماعية والشروط الذهنية ينعكس بشكل واضح في هذا الموقف المتناقض الذي تجلى بأشكال مختلفة في كلا القارتين.
اللافت ان البوب آرت بشقيّه الإنجليزي والامريكي، يعد محاولة لإخراج فن اللوحة (المسطح التصويري) من سكونيته وعزلته عن المجتمع والمدنية والبيئة، وهو ما يفسر إعادة توليف الوسائط ورفع الحدود بين أنواع الفنون من رسم أو نحت إلى مسرح وموسيقى، ويمكن القول بأن فن البوب آرت كان ببساطة مساهمة في نقد الفن، وقد نجح على المستوى المادي، ووصل إلى الجمهور، إذ صور بيئة المستهلك وعقليته: حيث يصبح القبح جمالاً.

المرجع:
الدليمي، منذر فاضل حسن (2012). العدمية في رسم ما بعد الحداثة. الطبعة الأولى، عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع.



الأحد، 8 أبريل 2018

مناقشة مقال "فنون ما بعد الحداثة: الدلالة الفكرية والزمانية للمصطلح".











مناقشة مقال

فنون ما بعد الحداثة: الدلالة الفكرية والزمانية للمصطلح






جاء مصطلح ما بعد الحداثة(Post-Modernism)  في السياق التنظيري في حقل الفنون التشكيلية نتيجة محاولات نقدية راصدة لمتحوّلات وتغيرات جمالية وفكرية في النتاج التشكيلي الغربيّ. ونظرًا لحداثة المصطلح في الأطروحة الفلسفية والنقدية الغربية في حقل الفنون والفنون التشكيلية على وجه الخصوص واستنادًا إلى زخم المتغيّرات والمتحوّلات الهائلة التي كفلتها الروح التجريبية وأسس العقلانية الحداثيّة وما نتج عنها من طروحات جمالية وفكرية متعدّدة وصادمة ومخالفة في سلّم تطوّر النتاج الفني للغرب في القرن العشرين.
 تعرّض مصطلح ما بعد الحداثة في السياق النقدي إلى ما تعرّضت اليه المصطلحات السابقة بل وبصورة أشدّ عنفاً أفرزت الكثير من الإطلاقات والاستخدامات والإسقاطات المختلفة أحيانًا والمتناقضة والمرتبكة أحيانًا أخرى لوصف تجارب فنية، بل وموجات من التجريب والطروحات المتعدّدة في حقل الفنون البصرية. وهذا أمر من الطبيعيّ حدوثه -كما أسلفنا- نظرًا لتعايش المصطلح مع الظاهرة وعدم وجود مسافة زمانية فاصلة تسمح برؤية شموليّة ممّا ينتج عن ذلك عدم وضوح في الرؤية تعقد عملية التحديد لبداية الظاهرة ونشوئها وأشكال تطوّرها وتحوّلاتها الهامة إن وجدت. وبرغم أنّ المصطلح اليوم بات يؤشّر لدى الكثيرين إلى طبيعة وملامح حقبة تاريخية ومناخ ثقافيّ اتّصف به المشهد الثقافي الغربيّ منذ منتصف الخمسينيات من القرن الفائت، إلا أنّ هناك إرهاصات سبقت ولادة هذا المصطلح بالمعنى المتعارف عليه اليوم، تمثلت باستخدامه في فترات متباعدة في الأدبيات الغربيّة تعود إلى أبعد من هذا التاريخ، وهذا ما أشار إليه المفكر الأمريكي من أصول عربيّة إيهاب حسن، حين بحث في حفريّات المصطلح راصدًا رحلته التاريخية.
ففي حقل الفنون يذكُر حسن استخدام المصطلح لأول مرة عام 1887 من الرسام الانجليزيّ John Watkins Chapman في سياق حديثه عن “ما بعد الانطباعية”، وفي 1945 وظّفه Bernard Smith  للدلالة على حركة في الفنّ التشكيليّ تتجاوز التجريد، والتي اندرجت تحت إطار الواقعية الاجتماعية في حينها. إلا أنّ شيوع المصطلح وتغلغله في المشهد النقديّ للغرب قد ازدادا في عقديْ الستينات والسبعينات من القرن الفائت، مضطرديْن مع زخم المتغيّرات والطروحات الفكرية في حقل الفنون وما شهدته من إنجازات، بل واتساقًا مع اتساع رقعة النقاش الفلسفيّ العام حول المصطلح كما أسلفنا سابقًا، ما بين معارض ومؤيّد، لقدرته الدلالية على وصف المتغيّرات الفكريّة والمفاهيميّة في جميع أنساق المعرفة في السياسة والاجتماع وعلم النفس واللاهوت وغيرها، والتي لا مُتّسع لتناولها في هذه المقال.
في هذا السياق اتّسع الجدل النقديّ بين معارض للمفهوم معتبرًا ما استجدّ من طروحات فنية استمرارًا للرؤية والقيم الحداثويّة في الفنون، وما بين متحمّس مؤمن بحقيقة وجود اتجاهات فنية مخالفة بل مناهضة للقيم والمفاهيم الحداثويّة ومعبّرة عن روح العصر ما بعد الحداثويّ. وبرغم استمرار الجدل النقديّ على هذا الصعيد، والذي ما يزال مستمرًّا لدى البعض إلى يومنا هذا، إلا أنّنا نجد أنّ مصطلح ما بعد الحداثة هو حقيقة أخذت تتجذّر في النظريات الفنية المعاصرة وازدادت رسوخًا مع مرور الوقت، كما أصبح استخدام مصطلح الفنون المعاصرة (Contemporary Art) لدى الكثيرين مرادفًا لمصطلح فنون ما بعد الحداثة. إلا أنّ السؤال المهم هو: متى بدأت فنون الحداثة؟ وما التيارات التي تمثلها هذه الحركة الفنية؟ وما المنطلقات الفلسفية والفكرية العامة التي تتسم بها تلك التيارات الفنية؟ وهل مصطلح الفنون المعاصرة هو مرادف لتلك الفنون؟
اختلفت القراءات التاريخيّة والرّؤى النقديّة في تحديد أول التيارات الفنية ما بعد الحداثيّة في حقل الفنون البصرية. وقد شاع في سنوات الستينات والسبعينات واستمرّ إلى منتصف الثمانينات اعتقادٌ بأنّ التيارات الفنية الراديكالية التي ظهرت في أمريكا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على يد ما سُمّي بالطلائعيين، هي أوّل اشكال فنون ما بعد الحداثة؛ فبعض النقاد والمراقبين والفلاسفة رأوا أنّ فنون ما بعد الحداثة بدأت مع تيار البوب ارت Pop Art الذي ظهر في منتصف عام 1950 في بريطانيا، ثمّ انتقل إلى أمريكا في نهاية ذلك العام، ليشتدّ زخمه وتتّضح ملامحه بصورة أكبر عام 1960. واستند ذلك الاعتقاد على ما أحدثه فنّ البوب من انقسام ما بين الثقافة العالية (high) والثقافة الهابطة (Low)، ونتيجة توظيفه للإعلانات والصّور المستوحاة من الثقافة الشعبية. وعليه، ساد اعتقاد عام بأنّ هناك تحوّلًا فكريًا أصاب النتاج الفنيّ ما بعد الحرب وانتقل به من مرحلة الحداثة إلى مرحلة مغايرة ومناهضة للمفهوم, فبات ينظر إلى التيارات الراديكالية التي أخذت تظهر مع تيار البوب وما تلاه فيما بعد من تيارات، استنادًا على احتوائها لبعض المناكفات للتيارات الفنية السابقة, كتيار التعبيريّة التجريديّة (Abstract expressionism) والذي تبلور بشكل واضح عام 1946، وما ارتبط به من مفهوم التداعي الحرّ والعفوية المطلقة في التعبير, وفنون التجميع (Assemblage) الذي يعود بجذوره للعام 1950 نظرا لاعتمادها على خامة مغايرة للخامات التقليدية في فنون الحداثة, وفن الأقلية أو فن الحدّ الأدنى (Minimalism) الذي ظهر أوائل العام 1960 كردّ فعل على تعبيريّة كاندنسكي الحداثويّة النزعة أيضًا, وغيرها من أشكال التعبير الأخرى على أنها جميعًا أشكال جديدة مخالفة بل مناهضة للمفاهيم الحداثويّة، وتعبّر عن نزعة ما بعد حداثويّة.
منذ سنوات السبعينات وإلى اليوم توالت أشكال جديدة من التعبير حيث مناهضتها لقيم ومفاهيم الحداثة الفنية. فظهر الفنّ المفاهيمي (Conceptual Art) ما بين الأعوام 1966-1972, وفنون الأداء (Performance Art) منذ بداية عام 1970, وفنون التركيب (Installation Art) منذ سنوات السبعينات والثمانينات, وفنّ الأرض (Land Art) الذي غادر به الفنان جدران المتاحف والتحم بالطبيعة، وفنّ الجرافيتي (Graffiti) الذي ظهر في نهاية الستينيات, وفن الجسد (Body Art) الذي تبلور بشكل واضح عام 1970, وفنون الفيديو (Video Art) بأشكالها المختلفة، والتي تعود بداية ظهورها إلى عام 1965، وفن التوثيق (Documental) الذي ظهر في السبعينيات والفنون الرقمية (Digital Art), كفنّ الفيديو والفوتوغراف ومؤخّرا فن الانترنت (Net. Art) الذي ظهر عام 1995, وغيرها.
لقد جمعت هذه الأشكال التعبيرية المعاصرة عقيدة واحدة تقوم على رفض تلك الأعمال النخبويّة وسوق الفنّ ودور المتاحف وقاعات العرض لصالح الثقافة الجماهيرية وتقديم أعمال فنية تفاعلية تتجاهل مفهوم الاحساس بالجمال والسعادة الذي تأسّست عليه فنون الحداثة، وتستبدله بفن يطرح أفكارًا ومفاهيمَ تخاطب العقل لا الحواس. وفي الوقت نفسه، لم يخلُ النصف الثاني من القرن العشرين من حركات وتيارات فنية ارتدادية- محافظة إن صحّ التعبير، استندت على استرجاع المفاهيم والقيم الجمالية الحداثوية بصيغ معاصرة؛ فقدّم فنانوها أعمالاً تحت عناوين ومسمّيّات مستلهمة من المدارس والتيارات الحداثوية كتعبير واضح عن رفضهم لمفهوم الفكرة في العمل الفني، التي أخذت تسيطر على الفن الغربيّ في العقود الثلاثة المتأخّرة من القرن العشرين، وكإعلان واضح لانتصارهم للقيمة الجمالية والشكلية التي نادت بها فنون الحداثة.
في هذا السياق تزاحمت تلك التيارات الفنية وتنوّعت عبر العقود الفائتة، إلى جانب التطوّر في النقاش الفلسفي العام حول مفهوم ما بعد الحداثة والذي بدا بشكل واضح ودقيق مع تناول المصطلح بوصفه ظاهرة وحركة فكرية محمّلة بمجموعة من التحوّلات أصابت جميع سياقات المعرفة في وقت متأخّر، وتحديدًا عام 1979 من خلال كتاب حالة ما بعد الحداثة وما صاحب ذلك الكتاب وما تبعه من رؤى فلسفية مفسّرة للظاهرة الما بعد حداثية لفلاسفة ومفكرين آخرين وما رشح عنهم من نظريات وآراء لمفاصل التحوّل، لا سيما ظهور نظرية المجتمع ما بعد الصناعيّ ومفاهيم التلقي في عصر وسائل الاتصال والثورة المعرفية وتغير مفاهيم الاستهلاك والعولمة وغير ذلك من الآراء والتحليلات التي أرّخت لتحوّل المجتمعات الغربية من الحداثة إلى ما بعدها بشكل أكثر دقة. وقد انعكس ذلك على الطروحات النظرية في سياق الفنون البصرية وساهم في تأسيس وبلورة مقاربات نقديّة للمفهوم بصورة أكثر وضوحًا من حيث التعريف، ووضع الإطار الزمنيّ لتلك الفنون وأشكالها المعبّرة عن ذلك التحوّل، فذهب كثير من النقاد إلى ما تبنّاه سابقا الفيلسوف الأمريكي Clement Greenberg في دفاعه المُستميت عن فنون الحداثة ورأوا أنّ فن البوب آرت وفنّ الحدّ الأدنى وفنون التجميع هي أشكال تعبير حداثيّة عبّرت عن الحداثة في مرحلة متأخّرة. وفي هذا السياق اندرجت تلك التيارات لدى الكثير من النقاد تحت ما تم الاصطلاح عليه الحداثة العليا (High modernism) والتي كثر استخدامه في حقول النقد الفني بشكل خاصّ في الموسيقى والتشكيل والأدب، للتعبير عن مرحلة فكرية ارتبطت بحقبة الحداثة، تمامًا كما جرت العادة في تقسيم العصور السالفة إلى مراحل كالعصور الوسطى وتقسيمها إلى عصور مبكرة ومتوسطة ومتأخرة، وكذلك عصر النهضة والباروك للإشارة إلى متحوّلات طفيفة مهّدت لعصور لاحقة، إلا أنها ترتبط فكريا بنفس الحقبة الزمنية وتشكل امتدادًا لها.
في هذا السّياق ذهب أغلبية النقاد والباحثين إلى التأكيد على أنّ الحركات الفنية التي أخدت تتبلور بشكل واضح في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين والتي تبعت تلك الحركات وتأسّست على البُعد المفاهيميّ، هي التعبير الدقيق عن فنون ما بعد الحداثة, بل وذهب بعضهم إلى القول إنّ تلك الحركات التي جمعها الاحتفاء بالفكرة على حساب الشكل الفني ورفضها لسوق الفن ومفهوم النخبوية وارتباطها بالثقافة الشعبية، حملت متغيّرات وخصائصَ فكرية استهدفت السمات العامة لتيارات الحداثة العليا بشكل خاصّ، وليس خصائص فنون الحداثة بصورة عامة, نظرًا لما تعمق بتلك التيارات المتأخّرة من مفاهيم أكّدت غموض الفكرة والتطرف في التجريد والشكلانية. وهذا ما عبّرت عنه بشكل واضح فنون التجميع وما تلاها من إضافة لمواد ووسائط متعدّدة على سطح اللوحة، وبصورة اشدّ تيار التعبيريّة التجريديّة للفنان جاكسون بولوك وتيار الأقلية. أمّا فنون البوب فلربما ارتبطت بفنون ما بعد الحداثة من حيث استخدامها للصور والدعاية وقربها من الثقافة الشعبية، إلا أنّها لم تنطلق من المنطلقات الفكرية العامة لفنون ما بعد الحداثة الامر الذي أبقاها كتيار ممهّد وليس أحد أشكال فنون ما بعد الحداثة كما يعتقد البعض.
في سياق متّصل قادت تلك الخلاصة إلى مناقشة مفهوم الفنون المعاصرة بوصفه رديفًا لدى البعض عن مصطلح فنون ما بعد الحداثة، لاسيّما أنّ المصطلح ذا الدلالة الزمنية يؤشر بشكل عام إلى مجموع التيارات الفنية التي أخذت تظهر بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرّت إلى اليوم. إلّا أنّ هناك كما أسلفنا الكثير من التيارات المحافظة والتي تعود بجذورها إلى القيم الجمالية الحداثوية وتستخدم اللوحة كوسيط تقليديّ وتهتمّ بسوق الفنّ بما يخالف ما تنادي به تيارات فنون ما بعد الحداثة. من هنا اتفق الكثير من النقاد على أنّ مصطلح الفنون المعاصرة هو مصطلح أكثر شمولية من فنون ما بعد الحداثة، ويضمّ جميع التيارات الفنية التي ظهرت منذ الحرب العالمية الثانية سواءً أكانت التيارات المحافظة أم المناهضة لفنون الحداثة.
من هنا بات واضحًا أنّ حركة ما بعد الحداثة في الفنون لا تحمل دلالة زمنية بقدر ما هو مصطلح له دلالاته الفكرية والنقدية التي تؤشر إلى اطار فكري جامع لعدد من التيارات الفنية وانماط التعبير التي بدأت تغزو المشهد الفني في الغرب منذ الستينات من القرن العشرين وإلى الآن، كنتيجة لمجموعة من التحوّلات والمتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة والاقتصاديّة، وتركّزت في فلسفتها العامة على هدم الحاجز الذي شيّدته فنون الحداثة ما بين الثقافة الراقية أو ما يُسمّى بثقافة النخبة وما بين الثقافة الهابطة أو ما يسمى بالثقافة الجماهيرية, الأمر الذي منحها الفرصة لإعادة قراءة وصياغة لمفهوم العمل الفنيّ، ورسالة ودور الفنان ووظيفة المتلقي والعلاقة ما بينهما.


الفن المفاهيمي: (لوسي سميث، أدوارد2002)
يتوافر لدى الفنانين المعاصرين حرية المنهج في صناعة الفن بطرق وأساليب مختلفة تماماً، ولهذه الأساليب مكونات متميزة كالابتكار المستمر. نجد الفن المفاهيمي في الستينيات والسبعينيات يقف في جانب مع التركيز على الفكر الخالص، بينما تقف العاطفة الجياشة للتعبيرية الجديدة على الجانب الآخر.
كان الفن المفاهيمي من حيث الجوهر هو فن الأنماط الفكرية متضمناً أي وسائل يراها الفنان مناسبة لإبداء فكرته. تطور الفن المفاهيمي في الستينيات متوازياً مع بيئة وحدث وأداء الفن الشعبي، وبرغم ادعاء هذا الفن أنه فن الأفكار الخالصة فقط فقد كان غالباً ما يعبر عن نفسه في شكل بيئي مسهب.




العوامل التي أدت إلى ظهور فترة ما بعد الحداثة:
1-   وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945م وهو تاريخ يضع حدود فاصلة أمام مؤرخي حركات الفن الحديث.
2-   لقد بدأت الفنون المرئية في ذلك الوقت تقريبا منهجا جديدا كان من الصعب التنبؤ به وباتجاهاته وتوجهاته في عام 1939م حيث كانت التغيرات ترجع في جزء منها إلى الحرب ذاتها أحدثت تحولات كثيرة لم يكن من المتوقع إن يتجاوزها الفن دون أن يتأثر بها.
3-   أثرت الحياة الفنية في الولايات المتحدة وخاصة في نيويورك بفعل موجات متتابعة من الهجرات منذ بزوغ الثلاثينيات هروبا من الرعب النازي وتم استيعاب هذه الموجات من المهاجرين في الولايات المتحدة بسهولة ويسر أكثر من أي مكان أخر لان التركيب السكاني الأمريكي كان عبارة عن خليط وافد من مجمل الأوطان الأوروبية.
4-   التحول من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعرفة والمعلوماتية أو ما بعد التصنيع.
5-    ظهور المنظمات الضخمة والشركات عابرات القارات والمجتمعات التي سادت فيها التكنولوجيا والالكترونيات.
6-    التحول من المعرفة النظرية إلى التطبيقات العلمية التكنولوجية أو ما يطلق عليه (الحتمية التكنولوجية) والتي ساعدت في تحول العالم إلى قرية صغيره.


تعريف فترة ما بعد الحداثة:
يقول روبرت أتكنس: انه التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي. إذ تميزت الأعمال الفنية في تلك الفترة بإعادة قراءة الموروث الفني للحركات الطليعية في بداية القرن العشرين.


سمات وخصائص فترة ما بعد الحداثة:
1-   التركيز على قدسية فردية الفنان أو تفرده وفي كثير من هذه الحالات أصبح هذا الإحساس بالتفرد في جانب منه هو موضوع العمل الفني.
2-   الفنان فضل أن يغوص هو بنفسه في التكنولوجيا لتقليد الخطوات العلمية بحيث يقوم بإجراء تجارب أكثر مما ينتج أعمال فنية.
3-   اتخاذ الموقف الوجودي فنظر إلى من يبدع العمل الفني علي انه شخص يتحدى بقية نسيج المجتمع وفي الوقت نفسه يقبل نوعا من الرهان مع الوجود رغم إن الوجودية من أكثر الفلسفات التي تلقى شعبية وتأييد في فترة ما بعد الحرب مباشرة.
4-   اشتملت فترة ما بعد الحداثة على العديد من الحركات الفنية مثل التجميعية – الفن الجماهيري –فن البوب–التصوير الملون – الفن البصري – الفن الحركي – فن المينيمال – الفن المفاهيمي – وما فوق الواقعية. فن الجسد.
5-   أن هذه الاتجاهات الفنية التي ظهرت بعد فترة الحداثة فهي تمثل إعادة تقييم لأفكار كانت معروفة مسبقا قبل الحرب.
6-   انتقال الفن من نقيض إلى نقيض أي من التشخيص إلى البعد الكامل عنه.
7-   الانتقال من الطليعي إلى المفهوم السري أو ما تحت الأرض.
8-   كانوا الفنانون الحداثيون مثلهم كمثل أصحاب مدرسة الأسلوبية في القرن السادس عشر يحاولون إن يكتشفوا ما يمكن إن يفعله الفن عندما يكون هو وحده محل البحث والجدل.
9-   ألغت علاقة الفنان بتاجر اللوحات والنقاد.
10-  لم يكن الفن مرحلة إعادة تقييم ومحاسبة ذاتية فحسب بل أصبحت الخرافة الأساسية في الحداثة الموروثة من فترة ما قبل الحرب أصبحت خرافة الثورة ضد ما هو راسخ أو مقبول.


المراجع:

جوابرة، نصر (2014). فنون ما بعد الحداثة: الدلالة الفكرية والزمانية للمصطلح. مقال الكتروني.

لوسي سميث، ادوارد (2002). الحركات الفنية منذ 1945. الطبعة الأولى. هلا للنشر والتوزيع، الجيزة.