السبت، 14 أبريل 2018

العدمية في رسم ما بعد الحداثة 1


                                                                                                                  


العدمية في رسم ما بعد الحداثة 1


من كتاب العدمية في رسم ما بعد الحداثة لمنذر الدليمي 





العدمية وما بعد الحداثة:
نشأت الحداثة ضمن حقل النقد الأدبي، ثم استثمرت ووظفت في حقول معرفية أخرى كالاجتماع، السياسة، الفن، التحليل النفسي، التقنية، الألسنية، والاقتصاد. مصطلح الحداثة اختار العمارة منطلقاً له، وإن وُرد لفظاً في كتاب المؤرخ (آرنولد توينب)، وهذا ما يذهب إليه (جان فرانسوا ليوتار) الذي يعد مجال العمارة هو المجال الذي طُرح فيه سؤال ما بعد الحداثة بأشد الطرق حدة. ومن هذا المنطلق نجد أن مفهوم الحداثة قد تشبع بتصورات وحدود عدد كبير من المفكرين الذين وظفوا هذا المفهوم في منظوماتهم الفكرية، ومن هذه الزاوية نجد أن حالة من التنوع واضطراب تحدد مفهوم ما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلية.  
تجدر الإشارة إلى أن هناك اتجاهين فيما يخص ما بعد الحداثة، الاتجاه الأول يؤيد القول بما بعد الحداثة وحلول عصرها، ويمثله ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وفرانسوا ليوتار. هؤلاء أعلنوا نهاية الحداثة معلنين (فريدريك نيتشه) أباً روحياً لهم. أما الاتجاه الثاني فهو يرفض هذه التسمية (ما بعد الحداثة) ويعدّها بدعة، ويمثله (هبرماس، وفريدريك جامسون)، إذا يؤكد هذا الاتجاه أن التنظير لما بعد الحداثة ردة فعل بائسة ضد التنوير، ويدعى أن الحداثة غير مكتملة، ويقترح نوعاً من الحداثة التواصلية كمخرج من الحداثة. غالبية الباحثين لا ينظرون إلى ما بعد الحداثة إلا على أنها ظاهرة نقيضة وتناقضية وناقضة لذاتها، أي أنها تستحضر العدم في جوهر حضورها، بمعنى آخر لم ينشأ اتجاه ما بعد الحداثة إلا كتدمير للبناءات الرمزية التي أنشأتها الحداثة.
الجذور الفلسفية لما بعد الحداثة ترتبط مباشرةً وتدين بالكثير للفيلسوف نيتشه، الذي صح إن العدمية أضحت تدق على الأبواب، لنا أن نفهم تأثير هذه الأفكار العدمية في فن الحداثة وما بعد الحداثة. ميز فريدريك نيتشه بين أربعة أطوار في العدمية، وهي كالآتي:
1.     العدمية السالبة أو الناقصة: المرتبط بنزعة (شوبنهاور) التشاؤمية والمعتمدة على فكرة الألم القائلة بأفضلية العدم على الوجود، والداعية إلى تحطيم إرادة الحياة وتعترف بانهيار القيم القديمة دون أن تجرؤ على الشك في أساسها المثالي.
2.     العدمية الارتكاسية: وهي بمثابة رد فعل ضد العالم المفارق، وإذلال للقيم المقدسة والمثل العليا، إذ ينفي العدمي وجود متعالي والخير المطلق والحقيقة المجردة، كل هذا يأتي باسم قيم إنسانية مُسرفة في انسانيتها.
3.     العدمية الخنوعة: وهي المتبرمة من فقدان الحياة لأساسها والقيم لمدلولاتها المسلمة أمرها للقدر، الذي يجعل كل شيء سائراً إلى زوال ولا تعمل شيئاً للمقاومة.
4.     العدمية النشيطة أو الفاعلة: وتعني أن فقدان القيم لمدلولاتها لا يوجب أن يمنعنا من أن نواصل السير في جنازتها دون أسف، حينها تصل العدمية إلى هذا التحول والتصعيد يمكن أن تُشكل فضاءً جديداً للتفكير، وإمكاناً جديداً للحياة والوجود.
كان للحرب العالمية الثانية أثر واضح على جميع الأصعدة والجو الذهني والتعبير، حيث تأثر عدد من الفنانين تأثراً واضحاً بالأحداث الأمر الذي دفعهم للتعبير عن الأثر البليغ الذي وقع عليهم، إما بإثارة الموضوعات المرتبطة بأحداث الساعة، وإما بإتباعهم طريقة خشنة في معالجة مواضيع ليس فيها شيء من المأساوية.
الجديد في العمل الفني التصويري هو طريقة التعامل مع اللون كعنصر مستقل، وفي طريقة المعالجة واستخدام هذا اللون؛ فبطُل التصوير بمعناه التقليدي ولم يعد يُمارس بحسب ما تقتضيه المفاهيم الفنية السابقة، كما أُبطلت الوسائل التقليدية المرتبطة به كالدراسات الأولية التحضيرية وقوانين التأليف لتأخذ مكانها طرق جديدة في التعامل مع المادة التي أُتيح لها مجال الانفلات والتحرر النسبي من قيديّ المراقبة وإتباع قوانين خاصة.         
عندما شرعت العقول في رفض عالماً لم تعد العلاقة فيه بين الوعي والطبيعة تقدم أسس تقليدية، أضحت الحقيقة تؤلف عقبة أمام الفرد؛ العقبة الوحيدة التي امتلكت الشرعية وسطوة التأثير هي الحقيقة الباطنية والمخيلة والحواس. ومنذ ذلك الوقت لم تعد مهمة الرسام إعطاء المشاهد صورة وهمية مقنعة، بل الاستعاضة عن هذه الصورة بحقيقة أكثر صدقاً وحداثة، حقيقة تنبثق من فعل الروح المستقلة، الحقيقة ذاتها.
نتج عن هذه المحاولات الجديدة ذات الطابع الارتجالي، أن فقدت التقاليد الاكاديمية ودخل الفنان في عملية اختبارية تقود للتعرف على طبيعة المواد ودراسة خصائصها والإفادة منها ومما تقدمه له المصادفة. ينبغي الإشارة إلى أن فقدان التقاليد الاكاديمية لم يكن بطريقة عفوية أو غير مقصودة، بل ان الفنان الحداث كان يبدع عملاً فنياً يقوض فيه دعائم التقاليد ويخلخلها ويجعلها تبدو ملتبسة غريبة، يمارس عدميته من خلال التأكيد أن لا قيمة للقيم، ولا ثبات لتلك التقاليد التي أطاحت بها الحرب العالمية الثانية، ولتمارس الذات العدمية عملية إبادة وتفكيك لقيم وعقائد وتقاليد قائمة على التلفيقات السياسية والإيديولوجية؛ حتى تحول الفن إلى الداخل، إلى الجسد، إلى الذات.
كان على الفن أن يتحول بأشكاله وبموضوعاته وخطاباته لإلغاء قساوة التكنولوجيا وإنجازات العلم، عندها يصبح الجمال متغلغلاً في المستوى الاجتماعي، ليس الهدف من الفن خلق سوق موازية لسوق السلع الاستهلاكية، وإلا لأصبح بحد ذاته سلعة ولا نتفت عنه خاصية الرسالة. رافق ذلك كله انتقال مؤشر البوصلة ليعلن جغرافية جديدة للحداثة، هي مدينة نيويورك بدلاً من باريس الممزقة من دمار الحروب. وهو انتقال لم يكن محض مصادفة وإنما جاء نتيجة لولوج أمريكا العالم المعاصر كقوة اقتصادية وعسكرية، من خلال ثقافة كوزموبوليتانية؛ وكل ذلك مثّل ملاذاً آمناً لقائمة طويلة من الفنانين والأدباء أمثال أندريه بريتون، بيت موندريان، إيف تانغي، جين أرب، ماكس آرنست، وسلفادور دالي. كل ذلك كان قد أشر حقيقة مفادها إن الثقافة والفن والرسم بشكل خاصص كان على أهبة الانطلاق قدماً من جديد، من خلال أشكال وممارسات واتجاهات وأساليب فنية مختلفة، والتي من أهمها وأكثرها تأثيراً:

Ø    التعبيرية التجريدية Abstract expressionism عدمية الاستغراق في راهنية اللحظة واللاعقلانية:
يبدو أن تصاعد الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتمزق الذي سببته الحرب العالمية الثانية، قد عمق التأثير على الفنانين الشباب في أمريكا واروبا لأن التقدم التكنولوجي لم يضمن التقدم السياسي والاجتماعي، فيما كانت أزمة الثقة بالعقلانية في المجتمعات الحديثة قد أخذت مأخذها، وبمقدار ما كان الفن متعلقاً ومهتماً بالمقدمات المنطقية والمثالية للتكعيبية والحركات التي انبثقت منها في سنوات ما بين الحربين فأنها قد فقدت جاذبيتها ورونقها فيما بعد الحرب العالمية الثانية. مهد كل ذلك إلى ولادة محاولات جديدة ذات طابع ارتجالي فُقدت فيها التقاليد الاكاديمية وأدخل الفنان ذاته في عملية اختبارية وأماكن مجهولة جديدة، شكلت بمجموعات ما يشبه الثورة الفنية؛ لكونها غيرت طبيعة الصورة العامة للفن كما غيرت مفهومنا له وغيرت العلاقة ما بين الفنان والآخر/ المتلقي/ المجتمع/ الممارسة الثقافية، وأبرز ما يميزها هو (اللاموضوعية) وذلك لطابعها التجريدي العام وتخطيها الأشياء المرئية (العالم الموضوعي)، فيما كان (اللاشكلي) هو التعبير الذي يجمعها، لكون هذا الفن لا يرتبط في مفهومه العام بشكل أو أشاره، بقدر ما يرتبط باللون وتقنية وجودة المعبّر عن الانفعالات مباشرة.
الفن اللاشكلي هو الرفض لكل مشروع لكل تداول لكل فكرة مسبقة، والاستسلام للمزايا غير المنظورة للحركة والمادة، ولعل ما يرفضه الفنان اللاشكلي هو مفهوم اللوحة كانعكاس أو تكرار للواقع أو النموذج، كما يرفض أي شكل من أشكال التمثيل أو النقل. هذا الرفض الذي يصبح هيكل اللوحة وحسدها، هذا الرفض إذا اضيف إلى الإحاطة بكل تقاليد وتراث إنتاج اللوحة، فإنه سيشكل منهجاً وموقفاً عدمياً، وهو بذلك يتفق في كون ما بعد الحداثة في الفن، نشاط يسعى إلى تدمير القواعد وتجاوزها وخرق الحدود المتعارف عليها في الفنون والنظريات الجمالية والثقافية والفنية السابقة؛ وهو نشاط يتولد من أزمة انعدام اليقين ويسعى عامداً إلى خلخلة فرضيات الفن وقواعده، وهي مجموعة شروط تنطيف على التعبيرية التجريدية التي جعلت نيويورك عاصمة الفنون في العالم خلال فترة الاربعينيات.
يعد بولوك فناناً شديد الذاتية، فالحقيقة الداخلية بالنسبة له هي الحقيقة الوحيدة، ويصف هارولد روزينبرغ المنظر الرئيس للتعبيرية التجريدية هذا الأسلوب بأنه (ظاهرة انقلاب في المعتقد) بل انه ذهب الى ابعد من هذا فسماها (حركة دينية جوهرياً).

Ø    الفن الشعبي Popular art  عدمية تصعيد الهوامش إلى المركز:
عندما سُئل (ليوتارد) عن نوعية الفن الذي يمكن أن نطلق عليه وصف ما بعد الحداثة، أجاب قائلاً: "علينا أن نرتاب في كل الإبداع الفني الذي وصل إلينا من القديم وحتى البارحة، لقد تحدى (سيزان) التأثيريين، ثم جاء (بيكاسو) و (براك) فاستهدفا (سيزان) بالهجوم، ثم كفر (دوشامب) عام 1912م بفرضية الرسم نفسها حتى وإن كان تكعيبياً، وجاء بعده (بيورين) ليتشكك بدوره في فرضية أخرى، رأي إن دوشامب حافظ عليها في أعماله، ولم يتعرض لها بالنقد، وهي الفرضية التي تتعلق بموقع التصوير ومكانه في العمل الفني". وهنا ندرك ان فن ما بعد الحداثة يقاوم التقنين والتحديد، فهو يحدث كتعبير عن أزمة حادة، ويتولد من كسر القواعد أو قلبها رأساً على عقب، وهو لهذا (فن ما بعد الحداثة) يشير إلى تشككه في اللغات والأساليب والصور التي يتبدّى من خلالها للأعين، هنا يمكن أن نفهم لماذا قلب فنانو البوب اللعبة وأعادوا تركيب اللعبة وفق قوانينهم الخاصة، والتي هي بالأساس تحتكم إلى العدمية والتدمير لكل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها.
ويمكن تصنيف الفن الشعبي إلى شقين، أحدهما انجليزي والآخر أمريكي، إذ انبثق الأول من الثقافة الشعبية في البيئة الحضرية المتغيرة باستمرار وبالتطور الصناعي للإنتاج الاستهلاكي الشعبي، مقابل فن الطبقات الراقية، إذ أن البيئة الصناعية تعمل على خلق تجربة واسعة يمكن أن تندرج فيها المنتجات الصناعية بحيث تكتسب صبغة جمالية، بمعنى أن العادات التي درجت عليها العين بوصفها واسطة للإدراك قد تغيرت تغيراً تدريجياً بطيئاً، نتيجة تعودها على الأشكال المميزة للمنتجات الصناعية والموضوعات القائمة في الحياة العصرية. بينما مثل الشق الأمريكي إعادة تقييم بصري للأشياء والأحداث التي يعيشها الإنسان الأمريكي، وقد بدأ لجزء هام من حياته دون طرح أي مشكلة تتعلق بها أو تعبر عنها. ومن هنا هذا التباين في المفهوم الفني (البوب آرت) في أوربا وأمريكا؛ إذ أن تباين الظروف الاجتماعية والشروط الذهنية ينعكس بشكل واضح في هذا الموقف المتناقض الذي تجلى بأشكال مختلفة في كلا القارتين.
اللافت ان البوب آرت بشقيّه الإنجليزي والامريكي، يعد محاولة لإخراج فن اللوحة (المسطح التصويري) من سكونيته وعزلته عن المجتمع والمدنية والبيئة، وهو ما يفسر إعادة توليف الوسائط ورفع الحدود بين أنواع الفنون من رسم أو نحت إلى مسرح وموسيقى، ويمكن القول بأن فن البوب آرت كان ببساطة مساهمة في نقد الفن، وقد نجح على المستوى المادي، ووصل إلى الجمهور، إذ صور بيئة المستهلك وعقليته: حيث يصبح القبح جمالاً.

المرجع:
الدليمي، منذر فاضل حسن (2012). العدمية في رسم ما بعد الحداثة. الطبعة الأولى، عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق