الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

العلم والفن


العلم يتناول الحياة كما هي في واقعيته، ولكن الفن يتناولها تبعاً لتخسير الفن لها، فلا يُكتفى بعرضها كما هي في ذاتيتها الخالصة، بل يمزجها بما تمتلك من عاطفة وخيال، فتبدو الحقيقة كما تفرضها الحتمية في خاصيتها الفنية. ينظر العالم إلى دقة وواقعية المقاييس، إلا أن الأديب أو الفنان يراها جملة لا تفصيلاً بما تحتويه من إيجابيات أو سلبيات، إلا أن الحكمة في ذلك هو أن العالم يحتسب رؤيته طبقاً للقوانين العقلية المبنية على الإدراك، ويأخذها الفنا تباعاً على مشاعره وإحساسه والجمال الذي استشعره خلال هذه التجربة. (Arabic tebyan)

كانت علاقة العلم بالفن تبدو وكأنها علاقة بين الأدب والعلم، باعتبار أن الأدب هو الأكثر شيوعاً والأسرع تأثراً بالواقع الاجتماعي والأغنى فيما يتعلق بتعدد المواد التعبيرية التي تشحن أحاسيس الناس من أجل توصيل الرسالة الإنسانية. والعلم من هذه الزاوية يخدم حاجات الناس العملية ويمدهم بمعرفة القوانين الموضوعية ويزيد من تفاعلهم مع الطبيعة والاستفادة من مكنوناتها. يهدف كل من الفن والعلم بهذه الصيغة، المتمثلة في تطوير مدارك الإنسان، ورفع مستواه الثقافي والاجتماعي، وبالتالي تغيير العالم. في ذات الوقت تعبر فنية الأدب عن إدراك حسي انفعالي خيالي، هذا الادراك يفصح للعالم بأن العلم ما هو إلا إدراك عقلي ملموس. إن تسليط الضوء على هذه العلاقة ومن هذا الجانب يعيدنا إلى العصور التاريخية التي ظهرت فيها الفلسفة كأقدم علم عرفته البشرية، بل وبأكثر دقة إلى بداية العصر الإغريقي، حيث السؤال التاريخي الكبير الذي جلبته الفلسفة: هل يمكن معرفة العالم؟ لنواصل بعد ذلك الغوص في مكنونات هذا العلم وفهم طبيعة عناصره وتفاعلاتها عبر العصور". (عبدالأمير)

كان الجدل حول علاقة الفن بالعلم يتجلى في فهم ماهية المعرفة، في فهم طبيعتها وارتباطها بالعلم ومقدار قوة الأواصر التي تربط المعرفة بالفن في ذات الوقت، وكانت الخلافات التاريخية إزاء هذه العلاقة ترسو قبالة ضفتين: ففي حين شقت اتجاهات تقليدية طريقها بنفي وجود أية علاقة بين الفن والمعرفة وحددت ارتباط المعرفة بالعلم فحسب. برزت في سياق التعمق في فهم عملية المعرفة مدارس تحاول التأكيد على قوة هذه العلاقة. وبين هذين التيارين وكنتيجة منطقية للعملية الجدلية عندما يبرز الصراع بين فكرين مختلفين حول قضية ما، يظهر إلى السطح تيار ثالث الذي ما ان يلبث حتى يأخذ يراوح في مكانه وهو يعلن تشككه بعلاقة الفن بالمعرفة تارة ويبدي الاقتراب من استيعابها تارة أخرى، حتى أخذ اقترابها وبعدها في هذه العلاقة أشكالاً مختلفة. ولو تتبعنا في بحث استقرائي تاريخية هذه الظاهرة لتوصلنا إلى أن النزعات والاتجاهات التي انحدرت من أصول الفكر الميتافيزيقي المثالي هي التي تقر بثنائية العلم والفن وعدم التقائهما، رغم أن ثمة توجهات تتكئ على سند التحليل المثالي للظواهر التي حاولت استيعاب هذه العلاقة ولكن بفهم مثالي. ولعل الفيلسوف الإغريقي (سقراط) هو أول من توصل إلى وحدة الفن والعلم، إلا أنه ألبسها رداء الميتافيزيقية، حيث رأى من خلال التجريد المنطقي للصفات المشتركة للأشياء، أن المفهوم هو جوهر المعرفة. وهذا الاستنتاج قاده إلى المفاهيم المتعلقة بحياة الإنسان ونشاطه العقلاني، وبشكل خاص نشاطه على صعيد معرفة الذات. وعلى أساس هذا الاكتشاف جاء بموضوعته الشهيرة "اعرف نفسك" التي انطلقت من معرفته المثالية لمفهوم الجمال وفكرته التي صاغها استناداً على هذا الفهم وجملته الشهيرة "إن كل ما هو معقول جميل". إن الإحساس بالجمال، تبعاً لرأي سقراط، لا يمكن أن تلمسه إلا بالعقل، ومعرفة الجمال هي معرفة الحياة، وسقراط ينظر إلى الفن بمقدار معرفته بالحياة، وبما أن للحياة هدفاً "معقولاً"، هذا ما يثبت أن للفن ضرورة وظيفية معقولة وذات هدف معين، الفن بجماليته لم يكن في يوم ما تهريجاً بهلوانياً، لذا لا يجد سقراط في الرقص- على سبيل المثال- فناً إلا من خلال كونه أداءً جميلاً هادفاً إلى تنمية الجسد. والفن من هذه الزاوية يعادل المعرفة في سياق سعيها نحو بلوغ هدفها وأداء رسالتها في الحياة. (عبد الأمير)

أشار(محمد،2008) أن العلاقة بين العلم والفن ما هي إلا علاقة إشكالية ثير جملةً من التّساؤلات الفلسفيّة حول طبيعة هذه العلاقة، والمتمثلة في مايلي:

·       هل ثمّة علاقة بين العلم والفنّ؟

·       إذا كان ذلك كذلك فما طبيعة هذه العلاقة؟

·       وأين يتقاطع العلم مع الفنّ وأين يفترق؟

في الحقيقة تباينت الآراء والمواقف الفكريّة حول هذه العلاقة بين العلم والفن منذ وقت ليس بالقريب، فهنالك آراء ومواقف واتّجاهات تشير إلى ضرورة الفصل بين العلم والفنّ، وهنالك آراء ومواقف واتّجاهات أخرى ترفض هذا الفصل، وتعرض حججها لتأكيد علاقة العلم بالفنّ وتحديد عناصر الاتّفاق والاختلاف بينهما، وهنالك اتّجاهٌ معاصر ينظر للعلم والفنّ بوصفهما مركّبٍ واحدٍ في ظلّ ثورة المعلومات والتّكنولوجيا المتقدّمة. ولكي نقف على طبيعة هذه العلاقة، يجدر بنا إلقاء الضّوء على مفهوميّ العلم والفنّ. (محمد،2008)

مفهوم العلم: لغة هي "كلمة مشتقة من الفعل عَلِمَ أي أدركَ، والعلم عكسه الجهل، وقال علماء اللغة عن العلْمُ أنه الدلالة والإشارة والعلامة، والعلم يأتي بمعنى الشعور ويأتي بمعنى الأثر الذي يستدل به، فهو الحقيقة والنور. كما قال عنه الفيروز آبادي بأنه هو حق المعرفة، فالمعرفة تختلف عن العلم كونها تهتم بموضوع ما بشكل عام، وأمّا العلم فيهتم بالموضوع بجوهره ومضمونه والإحاطة به من كل الجوانب." (العبادي، 2016)

وأضافت كفاية العبادي (2016) تعريف العلم اصطلاحاً: " العلم هو الإدراك، ويتم ذلك بالاكتساب، فهو لا يولد مع الإنسان وإنما يكتسبه من خلال الإدراك، فإدراك الشيء هو الإحاطة بكل ما يخصّ هذا الشيء، فظهرت علوم عديدة منها علم الرياضيات، وعلم العلوم مثل الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، وعلم الجغرافيا، والفلك، والبحار، والنباتات، وغيرها من العلوم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى، والشخص الذي يختص بعلم ما ويبرع به في كافة مجالاته هو عالِم".

عن محمد (2008) نقلاً عن الموسوعة الفلسفيّة السّوفيتيّة فعرّفت العلم بالقول: "العلم شكلٌ للوعي الاجتماعيّ ، يُمثّلُ نسقاً متطوّراً _ تطوّراً تاريخيّاً _ من المعرفة الّتي يصير التّحقّق من صدقها وتحديدها على نحوٍ أكثر دقّة خلال خبرة المجتمع العمليّة". وأضاف: "العلم على النّقيض من الفن الّذي يعكس العالم في صورٍ فنيّة، إذ يدرك العالم _ أي العلم _ في مفاهيم بواسطة التّفكير المنطقي. وتكمن قوّة العلم في تعميماته".

كما نقلت العبادي (2016) عن جون ديوي: " عرّف العالم جون ديوي العلم بأنه الدراسة المنظمة التي تقوم على منهج واضح مستند على الموضوعية، وأمّا العالم لالاند فعرف مصطلح العلم بأنه مجموعة المعارف والأبحاث التي تتصف بالوحدة والضبط والموضوعية التي تؤدي إلى نتائج مطلقة الصحة، فهي لا ترضي أذواق الآخرين وإنما هي حقيقة يجب الأخذ بها، وأما الأخضر زكور عرف العلم بأنه هو ما تم اكتسابه من الملاحظات الجادة والتجارب الموضوعية والحقائق".

الفن نشاط إنساني نوعي، عرفته كل الشعوب والثقافات باختلاف توقيت حضاراتهم وتنوعها بما تحمله من قيم اجتماعية، ثقافية، ودينية. يرتبط الفن مع إدراك البشر له، فهو متلازمة كل الحضارات والاديان وقابل للمشاركة مع الجميع. (قرني،2015) ويعتبر الفن النتاج الإبداعي الإنساني حيث يعتبر لوناً من ألوان الثقافة الإنسانية. ويعبر الفن عن التعبيرات الذاتية وليس تعبيراً عن حاجة الانسان لمتطلباته الحياتية. (موضوع،2015)

أوضح آل وادي أن الفن تبعاً للفلسفة البراجماتية المتمثلة في جون ديوي مقترن بعالم الحواس، والصناعة والتجريب بوصف العملية الإبداعية ذات منحى انساني ولا تنفصل عن خبراتنا العملية الأخرى. وأضاف أن الفن كما يراه "يونك" نوع من الواقع الفطري الذي يستولي على الانسان ويجعله أداته، كما يعتبر الفنان أداة التعبية عن خزين مقتضيات اللاشعور الجمعي.  (آل وادي،2015)

الفرق بين العلم والفن: (محمد،2008)

1.     فرق في أداة المعرفة:

أ‌.       الأداة التي يعتمد عليها العلم هي العقل، والتي تعتبر موضع اتفاق في النتائج التي يتوصل إليها من بحثه وسعيه وتحليله. ينظر الانسان الى الظواهر من الخارج ويسعى الى اكتشاف الروابط والعلاقات فيما بينهم، بهدف التوصل الى وضع فرضيات وصياغة النظريات المفسرة لتلك الظواهر، ووضع القوانين العلمية اليقينية الثابتة نسبياً.

ب‌.   الأداة التي يعتمد عليها الفن هي الوجدان، وهو ليس قصراً على البشر كما هو الحال في العقل؛ الأمر الذي يجعل الإنتاج الفني موضع اختلاف تباعاً لذوق المتلقي.

2.     فرق في الغايات والأهداف:

أ‌.       غاية العلم وهدفه المنفعة والمعرفة والتعميم، والتوصل إلى قوانين عامة وثابتة نسبياً.

ب‌.   غاية الفن الخلق الفني للواقع والبحث عن الجمال والتخصيص.

3.     فرق في النظرة والمنهج:

أ‌.       نظرة العلم ومنهجه في التعامل مع الأشياء تبدأ من انطباع حسبي مباشر للأشياء على الحواس، وتنتهي باستخلاص القوانين والنظريات من معطيات حسية أولية بعد خضوعها للاختبار والتجريب.

ب‌.   نظرة الفن للعالم والوجود نظرة ذاتية مباشرة تعتمد على الحدس المباشر. 

4.     فرق في اللغة:

أ‌.       اللغة التي يستخدمها العلم في المصطلحات التي تحمل معنى واحداً وتدل عليه في أي مكان من العالم، وهي غير قابلة للتأويل والاجتهاد.

ب‌.   لغة الفن تنطوي على معانٍ متعددة، وهي قابلة للتأويل بألف معنى ومعنى، من ناحية أخرى هناك فرق بين طبيعة المصطلح العلمي واللغة الفنية، فالمصطلح العلمي من طبيعة كمية، إلا أ المصطلح الفنية من طبيعة كيفية.

5.     فرق في معيار الصدق:

أ‌.       معيار الصدق في العلم خارجي وقابل للقياس الموضوعي.

ب‌.   معيار الصدق في الفن داخلي باطني وغير قابل للقياس الموضوعي، كونه من طبيعة ذاتية، أقرب إلى الاستنارة وإيقاظ البصيرة منه الى احتمالات التطبيق العملي المباشر. 

6.     فرق في الوضوح، الشمول، والثبات:

أ‌.       العلم معرفة جلية، لها ثبات وشمول، تصل إلى أكبر عدد من الأفراد بسهولة ووضوح يتعدى الانكار والتشكيك والتناقض، كما يضيء مساحات واسعه من وعي الافراد بصورة ثابته ومستمرة يُترجم إلى فائدة عملية.

ب‌.   الفن يحقق ومضات رؤية خاطفة، قد يخترق أبعد مما يحققه السير البطيء للعلم وبصورة أكثر إبهاراً إلا أنها ومضات خاطفة سريعاً ما تنطفئ.  

7.     فرق في زمن الإنجاز والجهد:

أ‌.       العلم عمليّة بطيئة نسبيّاً وجهد كبير ومثابر ومتّصل، يتعدّى طاقة الإنسان الفرد في عمره الزّمنيّ المحدود.

ب‌.   الفنّ يعتمد على الومضة الخاطفة قصيرة زمنيّاً، ويعتمد على نشاط الفرد الفنّان.

في مجال التّفاضل "نجد إنَّ العلم يتفوّق على الفن، كونه الأكثر تمييزاً ووضوحاً والأقرب إلى منجزات الحضارة العينيّة، فهو الأعلى بحيث وصفه البعض بأنّه: "ذروة الفاعليّة الإنسانيّة وحدّ كمالها جميعاً، وهو آخر فصل في تاريخ الإنسانيّة ". كذلك تتّسم الرّؤية الفنيّة بأنّها قديمة قدم الزّمان، وربّما يكون الاختراق الّذي تحقّق في أزمنة سابقة يبزّ الاختراقات الّتي تحقّقت في أزمنة وعصور لاحقة، ففنّان الأمس ليس أقلّ فنّاً من فنّان اليوم، لكنّ عالِم اليوم أكثر علماً من عالِم الأمس، وذلك عائد إلى الطّابع التّطوّري التّراكمي للعلم". (محمدـ2008)

علاقة العلم بالفن ليست محصورةً في الفروق أو التّميز والتّفاضل، بل تمتدّ لتشمل التّقاطع، والوحدة فيما بينهما، فما هو فنّ يصلحُ لأن يكون علامات متقدّمة يهتدي بها العلم في سعيه لتحقيق المعرفة بلغته ووسائله، وهذا ليس بالشّيء الجديد من وجهة نظر أنصار هذا الاتّجاه، فقد استشهد روّادٌ أوائل في علم النّفس مثل ( كارل غوستاف يونغ، وسيجموند فرويد) بالفنّ بشكل فعلي وحيوي في صياغة نظريّاتهم في النّفس الإنسانيّة، من ناحية أخرى يُقدّم العلم زاداً وفيراً للفنّ كلّما تقدّمت معطياته بمرور الزّمن، فتقنيّة الكمبيوتر اليوم تقترب من الفنّ أكثر من اقترابها من العلم، وكذلك العلوم المتعلّقة بحركة الأجساد، تنحو باتّجاه تكوين صلة معيّنة بين الفن والبحوث العلميّة القريبة منه، حتّى أنَّ بعض فروع النّشاط الإنساني وتصنيفاتها، تجري نقاشات أكاديميّة لتحديد هويّتها، فهل يُمكن أن تُسمّى عمليّة التّرجمة علماً أم فنّاً؟ وهذا الأمر ينطبق على الإعلام والبلاغة، والعمارة والموسيقى والرّسم والتّصوير والنّحت، واليوم تزخر الجامعات بكلّيات الفنون الجميلة الّتي تتعامل مع الفنّ بوصفه معرفةً وعلماً يُشكّل عنصرا الموهبة والمعرفة ركيزتا التفوّق والإبداع فيه. (محمد،2008)

 

المراجع:

آل وادي، علي شناوة (2015). فلسفة الفن وعلم الجمال. عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع.

قرني، عزت (2016). أصول الفن. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

المراجع الإلكترونية:

محمدـ سامي الشيخ (2008). العلم والفن المفهوم والفروق. مقال الكتروني


العبادي، كفاية (2016). تعريف العلم لغة واصطلاحاً. مقال الكتروني.


عبد الأمير، طالب. (    ). جذرية العلاقة بين العلم والفن تعززها ثورة المعلومات. مقال الكتروني.


Arabictebyan


نقاوة، عمار (2015). تعريف الفن. مقال الكتروني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق